تتسارعُ الأحداثُ، وتزدادُ الضّغوطُ على حبيبِنا رسولِ الله -صلواتُ ربّي وسلامُه عليه-، ويتضاعفُ العذابُ على المؤمنين؛ حتّى ضاقتْ مكّةُ بخيارِها ونُبَلائِها!.
فبعد الخروجِ من الشِّعب لثلاثِ سنواتٍ فيه؛ أضعفتْ كبارَ السّنِّ، وأثّرتْ في ضعفائِهم؛ فلم يلبثوا قليلًا إلا ورحل إلى بارئِه أبو طالب ذو الثّمانين عامًا؛ دون أن يُسعِدَ ابنَ أخيه بنطقِ الشّهادتين، ولحقتْ توأمُ روحِه خديجة؛ وهي في الخامسة والسّتّين من عمرها -عليها السّلام-!.
فاشتدّ الأذى برسولِ الله؛ وهو يدعو قومَه والوفودَ القادمةَ لبيتِ اللهِ الحرام؛ إذ لم يجدْ عمَّه أبا طالب ينصرُه ويكلؤُه، ولا حبيبةَ قلبِه خديجةَ -رضي الله عنها- إن عادَ من صدودِ زعاماتِ قريش، وعنادِهم، وقلّةِ أدبِهم؛ تخفّفُ عنه ما يجدُه، وتواسيه، وتدفعُه؛ ليواصلَ الطّريقَ الشّاقَّ الطّويلَ؛ طريقَ هدايةِ هؤلاء الحمقى؛ الّذين يعبدون حجارةً صَمّاءَ؛ لا تضرُّ ولا تنفعُ، ولا يستجيبون للفطرةِ المُسْتجاشَةِ بآياتٍ تلو أُخرى؛ مع أنّهم يعلمون صدقَه، وأمانتَه، وفضلَه..!
ولكنْ “فَأَبَى الظّالمونَ إلا كُفورًا”…
ولكنْ أنّى لمثلِهِ أنْ تلينَ له قناةٌ، أو تضعفَ له عزيمةٌ، أو تفترَ له هِمّةٌ، أو تخورَ له قوّةٌ؛ بل انطلقَ يبحثَ عمّنْ يستجيبُ لدعوتِه؛ لعلَّ لديهِم قابليّةً واستعدادًا …
وفي الطّائفَ الّتي جعلها وِجْهتَه؛ صَدَّه كُبَراؤُها أشدَّ من صُدودِ قومِه؛ ألجأوه وزيدًا -حِبَّه- أميالًا إلى حائطٍ؛ وسفهاؤهم يرجُمونهُما بالحجارةِ؛ حتّى أدْمَوهُما، ولم ينجُ منهم إلا بحفظ الله له، وادّخارِه لغيبٍ هو يعلمُه، فلجأ إلى مولاه يناجيه في دعاءٍ مُخبتٍ مُبْكٍ؛ بكت السّماءُ لبكائه؛ وهو يختمُه خاشعًا:
“إنْ لم يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي؛ ولكنَّ عافيتَك هي أوسعُ لي”،
ونزل جبريل ومعه مَلَكُ الجبال -عليهما السّلام-؛ ليطبقَ عليهم الأخشبين؛ لكن مَن بُعِثَ رحمةً للعالمين، ومَن دينُه نزلَ بالإقناعِ لا بالإخضاعِ؛ أبى إلّا أنْ يكون الرّحمةَ المهْداةَ، والنِّعمةَ المسْداةَ؛ حرصًا على قومِه، وخوفًا عليهِم، وصَبرًا على أذاهُم؛ وإلا فَبِمَ نالَ هذه المنزلةَ الكريمةَ من ربِّه الكريمِ.!
فإنْ لم تقبلْهُ الأرضُ وأهلُها، وإنْ لم يجدْ نصيرَيْه؛ عمَّه وزوجَه؛ يحنوانِ عليه، ويكلآنِه، ويحوطانِه؛ فمن غيرُ اللهِ مولـًى ونصيرًا؛ فنعم المولى هو ونعم النّصير..!
فما أخذَ منكَ إلا ليعوّضَك خيرًا منه، ولا حرمَك إلا ليدهشَك بعطائِه، وما ضاقَ عليك بابٌ؛ إلا ليفتحَ أبوابًا أوسعَ وأرحبَ، أو بابًا لم ترَ عينٌ قطُّ ما وراءَه، ولا أذنٌ سمعَتْ مثلَه، ولا خطرَ على قلبِ بَشَرٍ..
ثم كانت المدينةَ الّتي أنارت بمقدِمِه صلّى الله عليه وسلّم، وتحلّتْ بطلعتِه، وتطيّبَتْ بموطئِه، وعبِقَتْ جَنَباتُها بتردادِ اسمِهِ في الآفاق، وارتفعَ فيها ذِكرُه، وكانت عاصمةَ دولتِه، ومنطلقَ انتصاراتِه على خصومِ أمَّتِه وملّتِه، ومركزَ الفتوحاتِ في عصرِه، ومِنْ بعدِه، وحاضنةَ جسِدِهِ الشّريفِ.. صلّى الله عليه وآله وصحبِه وسلّم..
اللهمّ ارزقْنا محبّتَه، وحُبَّ من يُحِبُّه، وديمومةَ زيارتِه، وأنْ نكونَ رفقاءَه في دار مَقامتِه، وكما حُرِمْنَا صحبتَه في الدّنيا؛ أن لا نُحرَمَ صُحبتَه في الآخرةِ.. يا ربّ العالمين.. يا الله..